أزمة في نقص المياه أم أزمة في إدارة المياه في الوطن العربي؟

dry

أزمة في نقص المياه أم أزمة في إدارة المياه في الوطن العربي ؟

الدكتور مجد جرعتلي

سيواجه العالم العربي أزمة قريبة في المياه العذبة والناتجة عن تغيُّر المناخ وعن السلوكيات السلبية في إدارة المياه حيث تستخدم على نحو خاطئ , فإن نسبة 70-90% منها يستخدم في الزراعة ذات العائد المنخفض مقابل 4% للصناعة و5% للشرب، وهذا سوف ينعكس سلبيا على تلك الثروة المهمشة والتي لا تقدر بثمن .


لقد حذرت منظمة الأغذية والزراعة العالمية منذ أعوام بأن مستقبل المياه يكمُن في الزراعة وأن المزارعون بحاجة إلى المساعدة لإنتاج مزيدٍ من الغذاء بقدرٍ أقل من الماء  وأن تنهض الزراعة بمسؤوليةٍ أساسية في تلبية الطلب على الغذاء، اليوم ومستقبلاً، وكذلك في إدارة مدى التأثيرات البيئية الناتجة عن الإنتاج .
فإذا عدنا عدة سنوات إلى الخلف وفي المنتدى العالمي الخامس للمياه، والذي عقد عام 2009 في إسطنبول، قال الدكتور ضيوف المدير السابق للمنظمة محذرا : “إن مستقبل المياه يكمُن في زراعةٍ أعلى كفاءة ”
وفي الوقت الراهن تستحوز الزراعة على مايزيد عن 70 بالمائة من مجموع استخدامات المياه العذبة على ظهر الكوكب وتصل في بعض الدول العربية الخليجية إلى مايزيد عن 80 بالمائة ومنها المملكة العربية السعودية والتي تستحوذ الزراعة فيها على 82 بالمائة من إستهلاك المياه العذبة فيها . وفي حين يلزم ما يتراوح بين 2 – 3 لترات من الماء للإيفاء بمتطلّبات الشرب اليومية للفرد، ثمة حاجة إلى 3000 لتر لإنتاج مكافئ الاحتياجات اليومية للفرد من الأغذية المتنوعة التي يتناولها الإنسان .
إن قضية تأمين المياه الكافية لإنتاج الغذاء سيتفاقم دورها  وتكبر ككرة الثلج في مستقبل كرتنا الأرضية فإن عدد الجائعين المتزايد في عالم اليوم، يزيد عن  مليار نسمة، أو 15 بالمائة من مجموع سكان العالم أجمع ممَن لا يحصلون على ما يسد الرمق، وهذا يؤول إلى الأسوأ ما لم تُتخذ قراراتٌ جريئة وتُطبَّق إجراءاتٌ ملموسة وسريعة لتدارُك الأوضاع

 

وكما ذكر المدير العام السابق للمنظمة فإن “العالم يواجه تغييراتٍ شاملة لم يسبق لها مثيل، بما في ذلك النمو السكاني، وحركة النزوح والهجرة، والتوسُّع الحضري، وتغيُّر المناخ، والتصحُّر، والجفاف، وتدهور الأراضي، إلى جانب تبدّلاتٍ رئيسية في التفضيلات الغذائية ونُظم الحِمية “لذا يبرز دورٌ مزدوج للزراعة في عالم اليوم من خلال رأب الفجوة بين العرض والطلب، سواء على المدى القصير أو الطويل، إلى جانب الحيلولة دون وقوع الصدمات مستقبلاً، وزيادة مرونة أشدّ الفئات السكانية تعرُّضاً للعواقب، والتخفيف من حِدة الآثار البيئية السلبية ”
ولكن ماهو السبيل إلى تحقيق الزراعة المثلى التي بوسعها إنتاج الغذاء للجميع وبأقل كلفة مائية ممكنة ؟ يجب على دول العالم إعتماد “صفقة زراعية جديدة “لضمان إتاحة الاستثمارات العاجلة المطلوبة للبُنى الأساسية للمياه لدى الُبلدان النامية، واعتماد إدارةٍ محسّنة للموارد المائية من أجل تلبية الاحتياجات البشرية الأساسية مع تهيئة موارد معيشة إنتاجية للأجيال المقبلة وتشمل هذه الصفقة الزراعية الجديدة عدة نقاط في غاية الأهمية وهي :

  •  - دمج الدور الجوهري لقطاع الزراعة في صُلب حركة التطوّر الإنساني.
  •  - تدعيم سياق حوكمة الأمن الغذاء العالمي.
  • - الإستثمار في الزراعة المُستدامة والمُنتِجة.
  • - الإعتماد على إدارةٍ جيّدة للمياه.
  • - صَون الموارد الطبيعية.

وإلى جانب الإدارة السيئة للموارد المائية  يلعب  تغيُّر المناخ دورا كبيرا بعيدة المدى على توفر المياه لأغراض الزراعة وإنتاج الغذاء وبالنسبة لمعدل الإنتاجية المحصولية في غضون العقود المقبلة وهذا يحثنا على تكثيف البحوث لتفهُّم تأثيرات تغير المناخ على موارد المياه الزراعية  دولياً ومحلياً


وأحب أن أذكر في مقالتي هذه بعضا من مقتطفات التقرير الصادر عن ” منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة ” في شهر حزيران من عام 2011 والمعنوَن “تغير المناخ والمياه والأمن الغذائي”
لقد تتضمن هذا التقرير إستنتاجات وتوقعات في غاية الأهمية ألخصها بما يلي :

  •  - تناقُص كميات تجدُّد الأنهار والمياه الجوفية في حوض البحر الأبيض المتوسط، والمناطق شبه القاحلة من الأمريكتين وأستراليا وجنوب إفريقيا وهي جميعاً مناطق تعاني فعلياً من الإجهاد المائي.
  •  - من المنتظر أن تتضرَّر مناطق واسعة في آسيا من الأراضي المروية التي تعتمد على ذوبان الثلوج والكُتل الجبلية الجليدية تلبيةً لاحتياجاتها المائية.
  •  - ستواجه مناطق الدلتا النهرية الآهلة بأعدادٍ مكثَّفة من السكان خطراً مائياً نتيجة لجُملة عوامل تضمّ انخفاض تدفُّق الموارد المائية، وزيادة الملوحة، وارتفاع منسوب السطح البحري
  • - من المتوقع أن تتسارَع الدورة الهيدرولوجية في العالم مع تصاعُد درجات الحرارة التي ستسبِّب زيادة معدلات التبخُّر الأرضية والبحرية. ويعني ذلك أن هطول الأمطار سيزداد في المنطقة الاستوائية و المرتفعات، في حين ستشهد المناطق شبه القاحلة والجافّة وشبه الجافة داخل القارات الكبيرة تناقُصاً في هطول الأمطار.
  •  - من المتوقع أن تتزايد وتيرة حالات الجفاف والفيضانات مما يتطلَّب التخطيط تحسباً لها، في حين يُنتظَر أن تصبح المناطق النادرة المياه في العالم أشدّ جفافاً وأعلى حرارةً.

وبالرغم من عدم إمكانية التنبؤ بتقديرات المياه الجوفيّة المتجدِّدة في ظل ظروف تغيُّر المناخ، بأيّ يقينٍ إلا أن التردُّد المتزايد للجفاف يمكن أن يشجِّع نمو أنشطة زيادة المياه الجوفيّة كمخزوناتٍ واقية لتغطية احتياجات الإنتاج الزراعي
أمّا ذوبان الكتل الجليدية الذي يدعم نحو 40 بالمائة من أنشطة الريّ في العالم فمن المحتوم أن يؤثِّر على كمّيات المياه السطحية المتوافرة للزراعة في الأحواض الرئيسيّة للإنتاج الزراعي

وفي حين يُنتَظَر أن يؤدي إرتفاع درجات الحرارة إلى عدة أمور سلبية وهي :

  • - إطالة المواسم الزراعية بالمناطق المعتدلة الشمالية .
  •  - تقصير فترة الموسم الزراعي.
  • - تناقَص إمكانيات الغلة الزراعية الكامنة .
  • - تناقَص معدل الإنتاجية المحصولية مقابل كميات المياه المستخدمة في الري.

وأحب أن أضيف ما أشار إليه الخبير ألكساندر مولير، المدير العام المساعد مسؤول قسم الموارد الطبيعية لدى المنظمة “فاو”، إلى أن “كِلا موارد معيشة المجتمعات الريفية وأمن الغذاء لسكان الحَضَر ستواجه خطراً سواء بسواء… في حين يُحتُمل أن يتضرَّر فقراء الريف الأشد ضعفاً على نحو غير متكافئ “.
ولكن ماهو رد فعل الحكومات الرسمية وصنّاع القرار السياسي الوطني، والسلطات الإقليمية والمحليّة المسؤولة عن إستجماع موارد المياه إلى جانب الدور الهام الذي يلعبه المزارعين أنفسهم رداً على هذه التحديات الخطيرة؟
والحل طبعا في العمل على تحسين قدرات دول العالم كافة على تطبيق نظمٍ فعّالة “للمحاسبة المائية” أي تحديد قياساتٍ شاملة لإمدادات المياه، وتحويلها، وصفقات التبادل بها وحول كيفيات إدارة موارد المياه واستخدامها وسط المُتغيَّرات المناخية المتزايدة. مع العلم بأن “المحاسبة المائية لدى أكثرية البُلدان النامية محدودةٌ بشدة، ولا تكاد توجد إجراءاتٌ للتخصيص المائي، أو تُعدّ تلك الإجراءات على عَجَل ,كما على المنظمات الدولية وبخاصة منظمة الأغذية والزراعة العالمية دورا هاما في مساعدة البُلدان النامية على إكتساب مهارات المحاسبة المائية الجيدة وتطوير نظمٍ متينة ومرنة للتخصيصات المائية كأولوية قصوى

أما على مستوى المزارعين والمَزرعة ذاتها، فإنه بوسع المزارعون تغيير أنماط الزراعة التي يعتمدونها وفترات الزراعة والحصاد وذلك من خلال مراعاة الظروف البيئية من حيث التبكير بها أوتأخيرها مع خفض كميات المياه المستخدمة عن طريق تحسين كفاءة الري. ويمكن تدعيم معدلات الإنتاج والإنتاجية أيضاً باتباع أساليب حفظ رطوبة التربة، بما في ذلك “الحرث الصفري” أو الإمتناع عن عزق التربة أو عزقها بالحد الأدنى. والملاحظ أن غرس المحاصيل العميقة الجذور يسمح للمُزارعين بالنفاذ إلى مواطن رطوبة التربة في الطبقات التحتية . وتَعِد نُظم الزراعة المختلطة بالغابات أو المناطق الحراجية أيضا بالكثير، إذ تعزل هذه الأساليب الكربون وتتيح منافع إضافيّة أخرى مثل الظلّ الذي يخفِّض درجات الحرارة ويَحدّ من البَخر الأرضيّ، إلى جانب الحماية من الرياح وتحسين قوام التربة واحتباسها للمياه.
كل هذه العوامل السابقة من حسن الإدارة الجيدة للماء وإتحاد الزراعة بالبيئة الزراعية بإمكانهما أن يلغيان القاعدة السائدة بأن الكثير من محاصيل المَزارع في العالم النامي تُنتج محاصيلا أقل بكثير من إستهلاكها العالي من الماء العذب وإمكاناتها المناخية الزراعية الممكنة؟